بقلم : محمد أحمد العباد
لما بلغ الحسين رضي الله عنه
موضعاً يقال له ( كربلاء ) أرسل
عبيدُ الله بن زياد جيشاً لملاقاة الحسين في الطريق وكان يرأس ذلك الجيش : الحر بن
يزيد التميمي الذي لقي الحسين قريباً من القادسية وكان يعاكسه ويحاول منعه من
القدوم إلى الكوفة.
أراد الحسين رضي الله عنه ـ في هذه الأثناء وبعد أن صار
الاشتباك وشيكا ـ إحدى ثلاث:
1 - إما أن يرجع إلى مكة .
2 - أو أن يذهب إلى ثغر من ثغور المسلمين .
3 - أو يذهب إلى يزيد حتى يضع يده في يده في الشام .
فتعنت ابن زياد أمام تنازلات
الحسين t ، و كان من
الواجب عليه أن يجيبه لأحد مطالبه ، و لكن ابن زياد طلب أمراً عظيماً من الحسين t و هو أن
ينزل على حكمه ، و كان من الطبيعي أن يرفض الحسين هذا الطلب ، و حُقَّ للحسين أن
يرفض ذلك ؛ لأن النزول على حكم ابن زياد لا يعلم نهايته إلا الله ، ثم إن فيه
إذلالاً للحسين و إهانته الشيء الكبير ، وطلبه أن يستأسر لهم ، و هذا لم يكن
واجباً عليه ، إلى كانت النتيجة المؤلمة وهي قتل الحسين رضي الله عنه .
هذه هي باختصار شديد جداً حادثة استشهاد
ريحانة رسول الله r وابن ابنته الحسين بن علي t .
وقد جعل الله سبحانه وتعالى فيها عبرة ودلائل على مسائل كان أول من خالفها قوم
زعموا محبته - والصادق فيهم من كان حبه منفلتاً عن قيود الشرع - .
كما أنها تضمنت ما يفيد إبطال عدد من المفاهيم التي تحمل بين طياتها الفتنة والفُرقة في جانب ، والبدعة
والخرافة في جانب آخر ، وقد انتقيت من تلك المفاهيم 3 فقط ، فإلى المادة :
****
1 – إبطال المفهوم الخرافي عن الكرامات ( فالحسين t لا يعلم الغيب ) :
لقد اقتضت حكمة الله وسنته أن جعل سبحانه الأصل
في كل نتيجةٍ حسيةٍ ظاهرةٍ سبباً حِسِّياً ظاهراً ، ولهذا فمن غير الجائز أن ننسب
لمخلوق سلطة غيبية خارجة عن تلك الأسباب ، ولكن هل ثبوت الكرامات الخارقة للعادة يجيز ما
حرمته الشريعة من القسم بغير الله, أو الاعتقاد بالقدرات الخيالية للأولياء ؟!
إن الكرامة ثابتة بالشرع ولكن ليس على ما
يتصور البعض من أن حياة الولي كلها كرامات وخوارق , فقد تَحْدُثُ أمور خارقة لبعض
الصالحين ولكن على سبيل الندرة , والأهم من ذلك أنها ليست هي في متناول الولي في كل زمان ومكان , ولا هي حسب
مشتهاه فضلاً عن مشتهى الناس ، بمعنى : أنه ليس كلما أراد شيئاً أو احتاجه تحقق
أو كلما أرادوا من الولي شيئاً خارقاً أو احتاجوه منه حققه لهم .
ولهذا فقد كان الأولياء في تاريخ الإسلام يحيون حياة
عادية كباقي الناس : فيجوعون ويعطشون, ويصيبهم الهم والغم والحزن لا يجدون منه
مهرباً. ويضطهدون ويحبسون، بل يقتلون أو يموتون عطشاً وهم عاجزون تمام العجز عن
فعل شيء لأنفسهم رغم محاولتهم ذلك ، وها نحن الآن مع نموذج واضح لا لبس فيه على
ذلك .
فـ((ـالحسين - رضي الله عنه – لما قصد العراق في البداية بعد مكاتبات أهل الكوفة, كان قد اتخذ كل التدابير التي اجتهد في اتخاذها
, كإرساله لابن عمه مسلم بن عقيل ليستطلع له الوضع ويمهد له الأمور .
ولم يكتشف قبل ذلك ولم يعلم كذب الرسائل التي وصلته من أهل
الكوفة, ولا اكتشف أن الوضع قد تغير بعد الرسالة التي أرسلها إليه مسلم التي يدعوه
فيها إلى القدوم بناء على ما تخيل من تهيؤ الجو وتوفر الأسباب
ثم دخل العراق دون أن يعلم بما حصل لابن عمه, ولا عَلِمَ
t أنه صار في ورطة جعلت غاية ما يطلبه
منهم أن يُترك ليرجع, أو يسمح له بالذهاب إلى أحد الثغور, أو - على الأقل - يذهب
إلى يزيد ليتفاهم معه وجهاً لوجه !
وحين رُفضت مطالبه اضطر إلى الدفاع عن نفسه بمن معه .
ورغم كل ما صرف من جهود وبذل من قوة لم يتمكن لا من
الانتصار, ولا من الإبقاء على نفسه .
فهذه حال ولي كالحسين t ، فكيف بغيره ؟! وفي حياته ، فكيف يطلب منه بعد مماته أن : يعلم الغيب
, ويسمع النداء , ويشفي المرضى , ويحفظ أرواح المقاتلين ، وينتقم من فلان وفلان
...إلخ ؟!
قال تعالى { والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير إن تدعوهم لا
يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك
مثل خبير } ، وهذا نبي الله عيسى عليه السلام يقول { وكنت عليهم شهيداً ما دمت
فيهم } فكيف بغيره ؟!! )) .
***
2 – إبطال معتقد "الإمامة" التكفيري :
وقد كان لحادثة استشهاد الحسين رضي الله عنه أثرٌ في إبطال
هذا المعتقدات التكفيرية المثيرة للفتنة والفُرقة ، وكذلك كان لهذه الحادثة الأثر في تراجع عددٍ ممن ابتلوا بمثل هذه المعتقدات المثيرة - كما أسلفتُ - للفتنة
.
ولهذا جاء في كتاب "المقالات والفِرَق" للقُمِّي ص25، وكذلك في كتاب "الفِرَق" للنوبختي ص25-26 : (( أنه بعد قتل الحسين حارت فرقة من أصحابه وقالت: قد
اختلف علينا فعل الحسن وفعل الحسين، لأنه :
- - إن كان الذي فعله الحسن حقًا واجبًا صوابًا من موادعته معاوية وتسليمه له عند عجزه عن القيام بمحاربته مع كثرة
أنصار الحسن وقوتهم - فما فعله الحسين من محاربته يزيد
بن معاوية مع قلة أنصار الحسين وضعفهم، وكثرة أصحاب يزيد حتى قُتل وقُتل أصحابه
جميعًا باطل غير واجب، لأن الحسين كان أعذر في القعود من محاربة يزيد
وطلب الصلح والموادعة من الحسن في القعود عن محاربة معاوية ؟!
- - وإن
كان ما فعله الحسين حقًا واجبًا صوابًا من
مجاهدته يزيد حتى قتل ولده وأصحابه، فقعود الحسن وتركه
مجاهدة معاوية وقتاله ومعه العدد الكثير باطل ؟! ))
كما أن هناك عدداً من الروايات الواردة في كتب القوم عن مقتل الحسين رضي الله عنه
، وهي في نفس الوقت تنافي معتقدهم بأن هذه الإمام الذي يحكم لا بد أن يتعين بـ (النص الإلهي!) ، فمن
ذلك :
-
ما ورد في كتاب "مقاتل
الطالبيين" ص64 ، و"بحار الأنوار" للمجلسي (45/46) حول فاجعة
كربلاء : (( أن زين العابدين علي بن الحسين خرج وكان مريضاً لا يقدر أن يقل سيفه
وأم كلثوم تنادي خلفه: يا بني، ارجع .
فقال: يا عمتاه، ذريني أقاتل بين يدي ابن رسول الله .
فقال الحسين : يا أم كلثوم، خذيه لئلا تبقى الأرض خالية
من نسل آل رسول الله صلى الله عليه وسلم )) .
فهل غاب عنه t أن زين
العابدين سيكون هو الإمام الذي يُنصَّب من بعده بواسطة نص من الله ورسوله ؟! وأن
الأرض لا تخلو من حجة من آل الرسول r وإلا لساخت ؟!
... إلخ تلك المعتقدات ؟!
والغريب أن زين العابدين كان
جاهلاً بكل أحداث كربلاء، حتى بينت له ذلك زينب بنت علي رضي الله عنها، وعزَّته وسلَّته
وبشرته بدرجات الشهداء ! كما في كتاب كامل الزيارات ص257 لابن قولويه الذي وثَّق
رواة كتابه ، وبحار الأنوار للمجلسي (45/179) .
-
وورد في كتب القوم - كـ "كفاية
الأثر" ص318 ، و"بحار الأنوار" للمجلسي (46/19) - رواية عن عبيدالله
بن عبدالله بن عتبة قال: (( كنت عند الحسين بن علي، إذ دخل علي بن الحسين الأصغر،
فدعاه الحسين وضمه إليه ضماً، وقبَّل ما بين عينيه، ثم قال: بأبي أنت ما أطيب ريحك
وأحسن خلقك!
فتداخلني من ذلك فقلت: بأبي أنت وأمي يا ابن
رسول الله، إن كان ما نعوذ بالله أن نراه فيك فإلى من؟ قال: علي ابني، هذا هو
الإمام أبو الأئمة، قلت: يا مولاي، هو صغير السن؟ قال: نعم، إن ابنه محمداً يؤتم
به وهو ابن تسع سنين )) .
فعندما نتأمل هذه الرواية الواردة
في كتبهم سنلاحظ :
أولاً : عدم معرفة أصحاب الحسين t بوجود نص
على الإمام المُنَصَّب من الله كما يزعمون .
ثانياً : سنلاحظ إشكالاً آخر وهو
كون الإمام في هذه الرواية هو (علي الأصغر) ، والذي من المعروف أنه استشهد مع أبيه
الحسين t في كربلاء وهو
الذي يسمونه بـ(ـعبد الله الرضيع ) ، ويلقبونه بـ(ـباب الحوائج ) ونحو ذلك ، وهو
أخو علي زين العابدين رحمه الله .
وهكذا نجد هذه روايات القوم كالورق
الممزق إن جئت تصلح جانباً خرقت جوانب أخرى !
-
وقد روى أحد كبار الرواة الذين يتكئ عليهم دعاة الفتنة
وهو أبو مخنف الأزدي في (قصة مقتل الحسين رضي الله عنه ص65) ما جرى بين ابن عباس
وبينه من النصح له في ألا يخرج إلى العراق فقال: ( ثم قال ابن عباس: والله الذي لا
إله إلا هو لو أعلم أنك إذا أخذتُ بشعرك وناصيتك حتى يجتمع علي وعليك الناس أطعتني
لفعلت ذلك ) .
ولو كان ابن عباس t (ابن عم
رسول الله r ) وأحد رجالات أمير
المؤمنين علي بن أبي طالب t يعتقد بعصمة الحسين t - التي هي
فرع عن عقيدة الإمامة - لما خاطبه بهذا الأسلوب، ولما أشار عليه بالذهاب إلى اليمن
وخطّأ رأي الحسين t في اختيار العراق .
***
3 – بطلان الطقوس التعبدية المستحدثة :
إن الملاحظ على كل الشعائر والطقوس التعبدية الباطلة
التي تؤديها بعض الملل والنِّحَل أنها مستحدثة بعد وفاة أنبيائها - أو معظميها إن
كانوا أناسا صالحين - ، فلو خرج مثلاً المسيح عليه السلام اليوم لما عرف من الكنائس والترانيم
والصلبان والقداسات وغيرها من الطقوس التي تقام باسمه شيئاً ، فهل رأى المسيح
الصليب أو صلَّب عليه السلام بيديه على وجهه وصدره ؟
وهل بنى رسولُ الله مرقداً حول قبر عمه حمزة – مثلاً -
ودعا أصحابه إلى زيارته والطواف به وطلب الحوائج ؟ أو لزوجته خديجة رضي الله عنها
؟ أو لأحد من أبنائه كالقاسم أو عبد الله أو إبراهيم أو زينب أو رقية أو أم كلثوم
؟
وهل رأى الحسين رضي الله عنه هذه المراقد ؟
هل زارها وهل طاف بها ؟
وهل ازدحم فيها مع المزدحمين في عاشوراء أو صفر أو شعبان
أو رجب ليلطم على نفسه أو على أبيه رضي الله عنه أو على النبي صلى الله عليه وسلم سنوياً
؟
بل هل فعل ذلك أهل بيته الذين شهدوا مقتله وعايشوا حادثة
استشهاده رضي الله عنه ؟
الجواب : كلا .
إذن ما هذه الشعائر والطقوس التي أُسست بعده؟ هل هي من
لوازم حبه ؟ وماذا ينفع الحب المنفلت عن قيود الشرع ؟
وقد ذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية
( 7 / 371 ، 8 / 220 ) وغيره : أن أول من اتخذ تلك الطقوس التعبدية في يوم مقتل
الحسين عيداً هم الدولة البويهية في حدود عام الأربعمائة الهجرية ، ثم تطورت تلك
الطقوس مع مرور الزمن .
وفي عهد الدولة الصفوية يقول علي شريعتي - وهو عالم
اجتماع إيراني - متحدثاً عن استحداث منصب وزاري جديد لهذا الشأن هو (وزير الشعائر
الحسينية!) في الدولة الصفوية :
(( ذهب وزير الشعائر الحسينية إلى أوربا الشرقية وأجرى
هناك تحقيقات ودراسات واسعة حول المراسيم الدينية والطقوس المذهبية والمحافل
الاجتماعية المسيحية وأساليب إحياء ذكرى شهداء المسيحية والوسائل المتبعة في ذلك
حتى أنماط الديكورات التي كانت تزين بها الكنائس في تلك المناسبات. واقتبس تلك
المراسيم والطقوس .. ما أدى بالتالي إلى ظهور موجة جديدة من الطقوس والمراسم
المذهبية لم يعهد لها سابقة في الفلكلور الشعبي الإيراني ولا في الشعائر الدينية
الإسلامية . ومن بين تلك المراسيم النعش الرمزي والضرب بالزنجيل والأقفال والتطبير
واستخدام الآلات الموسيقية وأطوار جديدة في قراءة المجالس الحسينية جماعة وفرادى،
وهي مظاهر مستوردة من المسيحية بحيث بوسع كل إنسان مطلع على تلك المراسيم أنْ يُشَخِّص
أنّ هذه ليست سوى نسخة من تلك
... تتضمن مراسم العزاء المسيحي تمثيل حياة شهداء الحركة
المسيحية الأوائل وإظهار مظلوميتهم وطريقة قتلهم بواسطة حكام الجور والشرك وقياصرة
الروم وقواد جيشهم وكذلك التطرق لسيرة الحواريين ومأساة مريم وبيان فضائلها
وكراماتها ومعاناتها، والأهم من ذلك تجسيد مأساة عيسى المسيح وألوان التعذيب الذي
لاقاه سواء من قومه (اليهود) أو من الحكام الظلمة (القياصرة)، كل ذلك تحت عنوان (passion
) أي المصائب، وهو مصطلح يطلق على مجموع هذه المراسيم التي اقتبسها الصفويون
وأدخلوها إلى التاريخ الشيعي لتصبح جزءاً من الهوية الشيعية وتستخدم في تجسيد
المصائب التي تعرض لها أهل البيت والزهراع (ع) والإمام الحسين وأهل بيته وأصحابه
)) .